كثر الحديث عن ضعف أداء وإنتاجية المؤسسات والشركات السعودية وعدم قدرتها على تقديم خدمات أو منتجات ذات جودة عالية تلبي الإحتياجات الداخلية أو منافسة مثيلاتها خارجيا. هذا الضعف في الأداء والإنتاجية سيشكل عائق كبير في تحقيق رؤية ٢٠٣٠ والتي تعتمد على رفع قدرات الأفراد وزيادة فاعلية وكفاءة المنشآت لتأسيس البنية التحتية اللازمة لتحقيـــق أهداف وتطلعات الرؤية الوطنية من تميز أداء المؤسسات الحكومية الى زيادة الأعتماد على القطاع الخاص في التوظيف وتحسين الأنتاج لرفع أجمالي الناتج المحلي.
هناك عدد من الإشكاليات التي سببت هذا الضعف العام في أداء المنشآت المحلية وأهم هذه الإشكاليات هو عدم قدرة القيادات في كثير من هذه المنشآت على فهم مشكلة سوء الأداء لديها ومعرفة الأسباب الحقيقية وراء ضعف الأنتاجية وفي محدودية المعرفة الأدارية لكيفية قيادة التغيير للأفضل, فلم تتمكن في الماضي وعلى مدى سنوات طويلة من حل المشكلة وليس لديها القدرة حاليا على وضع حلول جذرية ومستدامة تساهم في الأرتقاء بمستوى الأداء وجودة الخدمات والمنتجات بشكل منتظم قبل الوصول لعام ٢٠٣٠.
ولذلك تجد أن الكثير من هذه القيادات يعزو أسباب تدني الأداء في منشاتهم الى تدني أو سوء أداء الموظفين لديهم ونجد هذا العذر متكرر بالأخص في القطاع الحكومي, لدرجة أن بعض الجهات(١) أشارت الى أن معدل أنتاجية الموظف لا تتجاوز ساعة واحدة في اليوم مقارنة بسبعة ساعات على المستوى العالمي لتبرير سوء النتائج والأداء في منشآتهم.
وهذا التقييم السطحي لمشكلة الأداء أدى الى أن أغلب الحلول المقدمة ركّزت على إستهداف الموظفين سواء عبر استخدام أجهزت البصمة لأثبات الحضور والأنصراف أو عبر أستخدام التقييم السنوي للأداء وربط ذلك بالترقيات والعلاوات في محاولة لرفع أداء الموظفين لتحسين الأنتاجية والذي تحدثنا عنه في مقالتين سابقة "تقييم الأداء السنوي لا يرفع الأداء 1/2" و "تقييم الأداء السنوي لا يرفع الأداء 2/2"
السؤال المهم والذي يجب يطرح للنقاش بتفصيل أكبر هو: هل الموظف مسؤول عن سوء الأداء وقلة الإنتاجية أم أن ضعف القيادات وأنظمة العمل في تلك المؤسسات والشركات هو المتسبب في مخرجات الموظف والوصول إلى هذه الدرجة من النتائج على مستوى المنشآت؟
وللإجابة عن هذا التساؤل أود أن أستحضر قصة الدكتور إدواردز ديمنغ أحد عباقرة الإحصاء والإدارة والجودة الأمريكية في أواخر القرن الماضي والذي شارك في قيادة تحول الاقتصاد الياباني ليصبح من أكبر الاقتصادات في العالم بعد الحرب العالمية الثانية وكذلك شارك خلال الثمانينات الميلادية في قيادة تحول منهجية القيادة والإدارة في الشركات الأمريكية بنظرياته في الإدارة والجودة التي تركز على تحسين أداء القيادات في إدارة الشركات والمؤسسات وعلى فهم تلك القيادات لدورها في تحقيق الجودة والتطوير في أنظمة العمل.
وتبدأ شهرة الدكتور ديمنغ حين وصل إلى اليابان بعد الحرب العالمية الثانية بطلب من اتحاد العلماء والمهندسين اليابانيين لكي يشرح نظريته في الإدارة والجودة للقيادات في اليابان, لمساعدة الشركات اليابانيه في رفع أدائها وتحسين جودة إنتاجها في ذلك الوقت لإنقاذ إقتصادها المنهار بعد الحرب.
كانت رسالة الدكتور ديمنغ واضحة للقيادات اليابانية وهي أن دورهم كقيادات مهم ومحوري في رفع الأداء وأن التغيير يبدأ من عندهم وليس من عند الموظف, وشرح لهم أهمية التركيز على الجودة التي تؤدي إلى تحسين المنتجات والخدمات وتخفيض الهدر وبالتالي تزيد من كفاءة العمل فتقل معها التكلفه ويتحسن الأداء فترتفع حصة الشركة في السوق, كما أكد الدكتور ديمنغ على أهمية العمل على المدى البعيد وعدم أستعجال النتائج بالتركيز على الربح السريع عبر خفض التكاليف فقط الذي قد يؤدي لرفع المؤشرات المالية مؤقتا ولكن على المدى البعيد سيؤدي الى إنخفاض الأداء العام لأنخفاض جودة المنتجات والخدمات مع الوقت فيزداد سخط العملاء ومعها تقل المبيعات وتزداد التكاليف وتقل حصة الشركة في السوق.
أقام الدكتور ديمنغ العديد من الدورات والورش لتعليم اليابانيين كيفية التحكم في جودة المخرجات كما قدم العديد من المحاضرات للقيادات في فهم وتحسين نظام العمل "work system", حيث أكد ديمنغ أن 95% من مستوى الأداء والإنتاج في الشركات عائد لنظام العمل داخل الشركات والذي يقع تحت مسؤولية القيادات في المنشأة وليس الموظفين. تقبّلت القيادات اليابانية إرشادات وتوصيات د. ديمنغ وعملت على تطبيقها عبر تحسين أنظمة العمل وتدريب الموظفين للحصول على أفضل النتائج وكان هذا مفتاح التغيير والتطوير في أداء وإنتاج الشركات اليابانية. وعلى الرغم من عدم وجود ثروات طبيعية لدى اليابان بالأضافة الى قلة المساحات الجغرافية, استطاعت اليابان وخلال خمسة سنوات من النهوض بعد الحرب العالمية الثانية لتصبح من أقوى الإقتصاديات في العالم بفضل تلك القيادات التي فهمت أهمية دورها المحوري في قيادة التطوير والتغيير وتحمل مسؤولية نتائج مؤسساتها وشركاتها بكل شجاعة.
نال د. ديمنغ العديد من الجوائز في اليابان ومن أهمها وضع جائزة للجودة بإسمه "Deming Prize" سنة 1951 وكذلك وسام الكنز المقدس من الدرجة الثانيه من قبل الامبراطور الياباني سنة 1960 وهو أعلى وسام يعطى لشخصية من خارج اليابان.
عندما عاد لأمريكا أواخر السبعينيات لم يكن معروفا لدى الشركات الأمريكية إلى أن أذاعت قناة سي إن بي سي برنامج تلفزيوني بعنوان "إذا استطاعت اليابان, لماذا لا نستطيع نحن؟" "?If Japan can, Why can't we"حيث تساءل البرنامج عن أسباب عدم قدرة المنتجات الأمريكية منافسة المنتجات اليابانية في الأسواق المحلية والعالمية, وجاء الجواب من الدكتور ديمنغ في نهاية البرنامج بأن المنتجات الأمريكية لا تستطيع المنافسة بسبب سوء أداء وإنتاج الشركات الأمريكية وأن الفجوة في التنافس مع اليابان تتسع مع الوقت مالم تفهم القيادات أن مخرجات الشركات راجع لسوء إدارتها وليس بسبب سوء أداء وإنتاجية الموظف الأمريكي (٢).
بعد إذاعة هذا البرنامج تعرف الأمريكيون على د. ديمنغ وما صنعه من تحول داخل الشركات وفي الاقتصاد الياباني. وفي أول كتاب نشر له في أمريكا بإسم "الخروج من الأزمة" "Out of the Crises" أنتقد فيه قيادات الشركات الأمريكية وذكر أن ٩٧٪ منهم لا يعلمون طبيعة وظيفتهم وأهمية دورهم في الشركة ومن يعلم ذلك لا يملك المعرفة والقدرة على إتخاذ القرارات الصحيحة (٣) وأضاف أن الشركات الأمريكية لا تحتاج سوى لتغيير شامل في طريقة الإدارة والقيادة لتحسين أدائها وإنتاجها لتصبح منافسة للشركات اليابانية, وشرح نظريته "النقاط الأربعة عشر في الإدارة الفعالة" وكذلك نظريته عن الأمراض القاتلة في الإدارة والتي تؤدي إلى سوء في الأداء وتراجع في الإنتاج ولخصها في خمسة نقاط كالتالي:
عدم وجود رؤية واضحة وثبات في الأهداف.
التركيز على المكاسب السريعة والأهداف قصيرة الأجل.
الاعتماد على التقييم السنوي للموظفين وربطه بالمكافأة لرفع الأداء.
تنقل الموظفين بين الإدارات بحثا عن الترقيات بسبب التقييم الغير منطقي.
إدارة الشركة بإستخدام الأرقام المحاسبية فقط.
في الوقت الذي نشاهد فيه الكثير من المنشآت لدينا تركز على أن مشكلة الأداء لديها يتمحور في ضعف أداء الموظف وتتبع نفس السلوك الإداري الخاطئ الذي استخدمته القيادات الأمريكية قبل الثمانينات الميلادية والذي أدى إلى سوء في الإنتاج والأداء في تلك الشركات , نشاهد اليوم أن الشركات الأمريكية والكثير من الشركات الناجحة في العالم قد تركت هذه المفاهيم الإدارية القديمة واعتمدت على نظريات حديثة في الإدارة منها نظريات ديمنغ والتي تركز على فهم وتحسين أنظمة العمل داخل المنشآت وتحسين مستمر للعمليات وتدريب الموظفين وخلق مناخ عمل آمن ومشجع لهم وإعطائهم حرية أكبر في التعبير عن آرائهم ومشاركتهم في تحسين أعمالهم للوصول لأعلى درجات الأداء في العمل والجودة في الإنتاج.
كانت إذاعة محطة سي إن بي سي الأمريكية لبرنامجها الوثائقي عام ١٩٨٠ عن تقدم اليابان وتأخر أمريكا وتساءلها عن الأسباب شرارة الإنطلاق للتغيير في مفهوم الإدارة و للتحول في الأداء والجودة في الشركات والمؤسسات الأمريكية. ونحن نقول اليوم "إذا استطاعت الأمارات، فلماذا لا نستطيع نحن". لعلها تكون شرارة الانطلاق للتغيير على المستوى القيادي والإداري في السعودية لخلق جيل منتج وداعم لتحقيق رؤية 2030.
الدكتور محمد حامد العميري
مستشار الإبتكار والجودة وتميز الأداء المؤسسي.
Twitter: @Malomairy
(١) وزارة الخدمة المدنية, وزارة الاقتصاد والتخطيط
(٢) مقابلة مع الدكتور ديمنغ في فبراير ١٩٨٤
(٣) أخر مقابلة مع الدكتور ديمنع نشرت في مجلة "Industry week" يناير, ١٩٩٤
Comments