الابتكار ليست ظاهرة جديدة فالإنسان منذ أن خلق وهو يبتكر ويبني هذه الأرض الى أن وصلنا للقرن الواحد والعشرين بكل مافيه من تقدم معرفي وتقني وطبي وأدبي وإجتماعي كنتاج لهذه الابتكارات المتلاحقة في كل المجالات. لكن رغم ذلك لازال مفهوم الابتكار غير واضح للكثيرين، بل أن تعريف الابتكار ذاته يختلف من شخص لآخر وحتى بين المختصين والخبراء، فكل شخص يرى الابتكار من وجهة نظر خاصة بالمجال الذي يعمل به ولو بحثت في قوقل عن تعريف للابتكار ستجد المئات من التعريفات المتفاوتة حول مفهوم الابتكار. اليوم سأتحدث عن خمسة أفكار خاطئة عن الابتكار سيطرت على مفاهيم الكثيرين وأصبحت من "الخرافات" المتداولة بأستمرار في كل أجتماع أو ندوة تتحدث أو تناقش الابتكار, ثم سأختم بتعريف مبسط للابتكار يساعد المهتمين على أتخاذ القرارات الصحيحة في عملية الابتكار لتقليل الهدر في الوقت والجهد والعمل بفاعلية أكبر.
الخرافة الأولى: الابتكار يعني التقنيه, الكثير يعتقد أن الابتكار يجب أن يكون على شكل منتج تقني أو أن التقنية فقط هي من يصنع الابتكار, وهذا المفهوم غير صحيح فالابتكارات تحدث في كل مجال, كالزراعة والصناعة والتعليم والصحة وغيرها ومنذ مئات السنين. كما أن الابتكار ليس محصورا في المنتجات, فيمكن الابتكار في الخدمات أو الابتكار في التسويق أو الابتكار في طريقة أداء العمل "العمليات"أو في قنوات وتجارب العملاء أو الابتكار في نموذج العمل وهذا أصبح الغالب على كثير من الشركات الناشئة حاليا حيث يتركز الابتكار على بناء نموذج عمل جديد يقدم قيمة جديدة للعميل. وكمثال على ذلك حين أبتكر مؤسسي شركة أر بي أند بي (Airbnb) نموذج عمل لمشاركة المنازل الخاصة وأستخدامها كغرف يمكن أستضافة العملاء كالفنادق وأستخدموا التقنية لتفعيل ونشر هذا النموذج الجديد. فالتقنية إذا مجرد عامل مساعد وليست الأصل دائما في الأبتكار, لذلك أي شخص يمكن أن يبتكر من موقعة وليس فقط الخبير التقني أو المتخصص في تطوير المنتجات. حصر مفهوم الابتكار في التقنية فقط أدى الى أن كثير من الجامعات أحتكرت الابتكار في الكليات الهندسية والتقنية فحجبت برامج الأبتكار عن شريحة كبير من طلاب التخصصات الأخرى. التقنية مهمة جدا اليوم لأنها أصبحت وسيلة التواصل الرئيسية بوجود الأنترنت ولكن لايمكن لأي مجتمع أو منشأة أن تتطور وتتقدم بالتركيز على التقنية فقط.
الخرافة الثانية: الابتكار يعني براءة اختراع، الكثير يربط الابتكار ببراءة الاختراع, وهذه أيضا ليس صحيح, فكثير من براءات الاختراع لا قيمة لها ولم يتمكن أصحابها من تحويلها لمنتجات مفيدة ومطلوبة في السوق. حسب التقراير والدراسات فأنه يوجد أكثر من ٢ مليون براءة أختراع نشيطة ومسجلة اليوم ولكن ٩٥٪ منها ليس لها أي أستخدام عملي وليس لها وجود في الأسواق. ليس ذلك فقط بل أن ٩١٪ من الابتكارات في الأسواق خلال ال٣٠ عام الماضية ليس عليها أي براءة أختراع. ولذلك فإن عدد براءات الاختراع لم يعد مؤشر حقيقي لقياس أداء الابتكار في المؤسسات أو الدول. من المهم أن نعي أن الطريق الى الابتكار ليس بالضرورة أن يمر عبر براءة الاختراع فكثير ممن يملكون شهادات براءة أختراع أمضى جزء كبير من وقته وماله للحصول على الشهادة ولكن يتفاجأ لاحقا أن فائدتها لا تتجاوز قيمتها المعنوية.
الخرافة الثالثة: الابتكار يعني أبحاث وتطوير، كثير من الناس وخصوصا الأكادميين يعتقد أن الطريق للابتكار لابد أن يمر عبر الأبحاث والتطوير وأنه من المهم الصرف على الأبحاث والتطوير لكي ترفع المنشأة أو المؤسسة أداء الأبتكار لديها, وهذا المفهوم أيضا غير دقيق. شركة زيروكس أسست مركز للأبحاث والتطويرالتقني سنة ١٩٧٠, واستطاع الباحثون في المركز أن يطوروا العديد من الاختراعات التقنية كفارة الكمبيوتر "Mouse" وبرتوكول شبكات الأتصال "Ethernet" و معالج الكلمات "Word Processor" وغيرها الكثير ولكن شركة زيروكس لم تستفيد من اختراعاتها لأنها لم تستطيع ربط هذه الأبحاث باحتياج الناس والسوق وفي المقابل جاء ستيف جوبس مؤسس شركة أبل, وأخذ حقوق هذه الاختراعات من زيروكس واستطاع تحويلها لمنتجات نستخدمها اليوم في جميع التقنيات التي نملكها, والنتيجة أبل أصبحت من أعظم الشركات وشركة زيروكس التي أمتلكت أكبر مركز أبحاث تقني في السبعينات كادت أن تعلن الافلاس في عام ٢٠٠٠ ميلادية. يقول ستيف جوبس في أحد المقابلات أن الأبتكار لا علاقة له بحجم الإنفاق على الأبحاث والتطوير ولكنه مرتبط بالناس وكيفية قيادتهم ومدى فهمك لعملية الابتكار. الأبحاث مهمة لزيادة المعرفة والمعرفة مهمة للإبداع والإبداع مدخل للابتكار ولكن الأبحاث ليست الطريقة الوحيدة للحصول على المعرفة وخاصة تلك المتعلقة بالابتكار.
"الابتكار لا علاقة له بحجم الإنفاق على الأبحاث والتطوير ولكنه مرتبط بالناس
وكيفية قيادتهم ومدى فهمك لعملية الابتكار"
ستيف جوبس, مؤسس أبل
الخرافة الرابعة: الابتكار هو الابداع, الكثير يخلط بين الإبداع والإبتكار لدرجة أن الكلمتين أصبحت مترادفة لديه فلا يذكر الابتكار الا ويضيف كلمة الابداع والعكس صحيح. الخلط بين الابداع والابتكار يحول ظاهرة الابتكار الى ظاهرة صوتية تغلب فيها الأفكار على الأفعال والتنظير على التطبيق الصحيح. الإبداع يعني بتوليد الفكرة "عملية التفكير" والابتكار يعني بباقي مراحل تحويل الفكرة إلى منتج ناجح في السوق "عملية الإنتاج". إذا كان الابداع يتمثل في البذرة فالابتكار يتمثل في البيئة والتربة الجيدة والرعاية والمتابعة لتحويلها الى شجرة مثمرة, وبدون هذه العملية تبقى البذرة بذرة لا قيمة لها, كذلك الابتكار يضيف قيمة للفكر الابداعي و بدون عملية الابتكار يبقى الأبداع مشروع ذهني لا قيمة له. أسهل الطرق لخلق أفكار إبداعية هي ملاحظة ومشاهدة سلوك العملاء سواء كان فعليا في موقع الحدث أو عبر دراسة وفهم بيانات العملاء. الصعوبة ليست في عملية الإبداع فكل شخص لديه مستوى من الإبداع يزيد وينقص حسب الخبرة والبيئة, ولكن الصعوبة تكمن في عملية تحويل الفكرة لمنتج ناجح وهذا يتطلب باقي المهارات والخبرات من قيادة وإدارة وتصميم وإنتاج وتسويق وبيع ومتابعة.
الخرافة الخامسة: الابتكار يعني الاختراع، كذلك يخلط الكثير بين الابتكار والأختراع, الاختراع هو تحويل الفكرة الجديدة من مجرد مفهوم نظري الى منتج جديد محسوس يمكن تجربته واستخدامه, ولكن هذا المنتج قد لا يلقى نجاحا في السوق أما لعدم قبول المستهلك للمنتج أو لعدم توفره في الوقت الصحيح أو لعدم توفر البنية التحتية المناسبة, فيبقى المنتج اختراعا ولكن لا يصل لدرجة الابتكار. للوصول لمرحلة الإبتكار يجب أن يوفر الأختراع قيمة حقيقية للعملاء يغير بها من سلوكهم. يقول جيف بوزو مؤسس أمازون "الأختراع لا يكتسح السوق الأ إذا تقبله العميل". لذلك لتفادي الفشل في قبول الاختراع في الأسواق على المخترع البدء من عند العميل أولا وفهم احتياجاته ومشاكله ثم البدء بوضع الحلول وأختبارها حتى يصل لمنتج يخدم أحتياج العميل. فسبب فشل الكثير من الاختراعات في الأسواق هو أن المخترع يبدأ بفكرة الحل ويعمل على المشروع دون أن يلتقي بالعميل و يبحث مشاكله وأحتياجاته. تذكر أن لكل عميل مشكلة ولكل مشكلة حل ولكن ليس كل حل أو أختراع يحل مشكلة لدى العميل.
"الأختراع لا يكتسح السوق الأ إذا تقبله العميل"
جيف بوزو مؤسس أمازون
معرفة واستيعاب هذه الخرافات الخمسة يساعد على فهم وإدارة عملية الابتكار بفاعلية أفضل وكفاءة أعلى خاصة لدى الشركات والمؤسسات التي تبحث عن حلول مبتكرة تساعدها على المنافسة اليوم والاستدامة للغد. واخيرا بعد أن إيضاح الخرافات الخمسة في الابتكار يمكن أن نعرف الأبتكار بمفهوم مبسط وهو "عملية تحويل الفكرة إلى قيمة جديدة تفي باحتياج عند العميل وتصنع ربح في السوق وتأثر على سلوك المستهلك".
--
الدكتور محمد حامد العميري
مستشار الإبتكار والجودة وتميز الأداء المؤسسي
Twitter: @Malomairy
Comments